05/03/2022 - 21:30

الباحث الإيطالي فرانشيسكو ليوباردي: "المعارضة الموالية وانحسار اليسار الفلسطيني"

في كتابه بعنوان "اليسار الفلسطيني وانحساره: معارضة موالية" الذي صدر باللغة الإنجليزية، يحاول الباحث الإيطالي فرانسيسكو ليوباردي فهم سبب انحسار اليسار الفلسطيني، من خلال دراسة حالة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

الباحث الإيطالي فرانشيسكو ليوباردي:

مسيرة للجبهة الشعبية في غزة نصرة للقدس (الموقع الرسمي)

في كتابه بعنوان "اليسار الفلسطيني وانحساره: معارضة موالية" الذي صدر باللغة الإنجليزية، يحاول الباحث الإيطالي فرانسيسكو ليوباردي فهم سبب انحسار اليسار الفلسطيني، من خلال دراسة حالة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بصفتها الفصيل اليساري الأكبر، حيث يتتبع مسيرتها في محطاتها المختلفة بين لبنان، وسورية والأراضي المحتلة.

ويعالج الكتاب وهو عبارة عن بحث أكاديمي لنيل درجة الدكتوراة تاريخ ومواقف الجبهة الشعبية، متنقلا بين أرشيفات ومجلات الجبهة، ومقابلات مع ناشطين وقيادات في كل من الأردن والضفة الغربية المحتلة ولبنان، ويركز على المرحلة الواقعة بين اجتياح إسرائيل للبنان واحتلال بيروت وتبلور الانقسام الفلسطيني بين حركة فتح وتنظيم حماس عام 2007، والذي كرّس، حسب الكاتب، تهميش الجبهة الشعبية على نحو نهائي وأثر على مجمل اليسار الفلسطيني.

وتطرق الكاتب في مقدمة الكتاب إلى أنه كان على البديل المفترض الذي جسّده اليسار الفلسطيني أن يواجه تناقضات كبيرة في عمل منظمة التحرير ستظهر بكامل قوتها بعد التغييرات الصادمة الناتجة من اجتياح العام 1982، حيث أصبح المشروع السياسي المضاد للهيمنة الذي ينافس استراتيجية فتح للتحرير يتعارض على نحو متزايد مع سياسة ولاء اليسار الفلسطيني المطلق لمنظمة التحرير الفلسطينية.

ورأى أن الحالة التي أسماها بـ"المعارضة الموالية" استلزمت، برأيه، في نهاية المطاف التخلّي عن كل دور ضد الهيمنة، ما قوّض مسوّغ وجود اليسار الثوري الذي لا يزال، على وجه الخصوص في حالة الجبهة، ملتزما اسميا بإنشاء دولة اشتراكية ديمقراطية في فلسطين.

واعتبر أن عملية تراجع الجبهة الشعبية (الفصيل اليساري الأكبر) هي نتيجة لصياغة سياسة غير فعالة وليس نتيجة ميكانيكية لأحداث خارجية مصيرية مثل هزيمة الأنظمة الشيوعية، وفي وقت تعاني فيه الحركة الوطنية الفلسطينية أزمة لا يمكن حلها أفقدت الجهات الفاعلة الرئيسة فيها الكثير من شرعيتها السياسية، فإن غياب اليسار الفلسطيني الموثوق به هو جزء لا يتجزأ من حالة الشلل السياسي الحالي، الذي يحول دون التصدي لمحاولات الانقضاض غير المسبوقة على حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني محليا وعالميا.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحث الإيطالي، فرانشيسكو ليوباردي، لإلقاء مزيد من الضوء حول الكتاب.

"عرب 48": اسمح لي بداية أن أسأل عن علاقتك الشخصية بالموضوع، إذا كانت، وعن منابع لغتك العربية التي تتقنها جيدا؟

ليوباردي: لقد بدأت بدراسة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية منذ أن كنت طالبا في الماجستير وقد اهتممت بفترة الثمانينيات لأن هذه الفترة، خاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان مهمة جدا في التطورات التي حصلت لاحقا وقادت إلى أوسلو.

أما اللغة العربية فقد تعلمتها خلال دراستي في الجامعة، بعدها زرت العديد من البلدان العربية، مثل سورية ولبنان ومررت بفلسطين حيث قضيت بضعة شهور في جامعة بير زيت وهناك تعلمت العامية الفلسطينية، وأنا مؤرخ مهتم بالتاريخ العربي ككل وليس الفلسطيني فقط، وعندما أجريت البحث اعتمدت على مصادر عربية ومراجع فلسطينية وأجريت مقابلات مع ناشطين وقادة من اليسار الفلسطيني في لبنان وفلسطين.

"عرب 48": ركزت في بحثك على الأسباب الذاتية لتراجع اليسار الفلسطيني وانحساره، علما أن هناك الكثير من الأسباب الموضوعية وعلى رأسها انهيار الاتحاد السوفييتي والاشتراكية واليسار العالمي، وأخذت الجبهة الشعبية الفصيل الأكبر فيه كنموذج؛ لماذا؟

الباحث الإيطالي فرانسيسكو ليوباردي

ليوباردي: هناك الكثير من الأسباب لهذا التراجع والانحسار وعادة ما يعزون ذلك إلى الأسباب الموضوعية المتمثلة بسقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار الاشتراكية، ولكنني رأيت أنه من المهم التمعن في الأسباب الذاتية، والمقصود كيفية تصدي اليسار لهذه التحديات وفشله في هذا التصدي.

هذا التوجه قادني إلى إجراء تحليل عميق حيث تحددت في بعض الديناميات التي كانت مركزية في صيرورة اليسار الفلسطيني، وهذا يعني أن اليسار في لحظة زمنية معينة لم يستطع الوقوع على خيار سياسي له مصداقية، وذلك بسبب التناقضات التي كان يعيشها، وهذا بدأ تحديدا في العام 1982 بعد اجتياح إسرائيل للبنان وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.

الجبهة الشعبية، بشكل خاص، بدأت تعيش تناقضا عميقا، أنا أسميه "معضلة الاندماج والمعارضة"، فمن جهة كان اليسار جزء من منظمة التحرير واحترم الشرعية وحتى قيادة منظمة التحرير ومن جهة ثانية فإن الدور التاريخي المنوط بهذا اليسار هو معارضة هذا الخيار.

ولكن في العام 1982 كان من المستحيل لليسار الفلسطيني أن يمثل خيارا معارضا منتقدا بسبب العديد من العوامل، مثل نهاية الكفاح المسلح كخيار واقعي وخسارة ساحة مواجهة رئيسية وتشتت القوى الفلسطينية في أكثر من بلد والمحاولات الدبلوماسية لياسر عرفات.

"عرب 48": لكننا نعرف أنه في مراحل سابقة خرجت الجبهة الشعبية من منظمة التحرير وشكلت جبهة الرفض في السبعينيات وشكلت جبهة الإنقاذ في نهاية الثمانينيات؟

ليوباردي: هي لم تخرج فعلا من المنظمة بل وجدت القوى العربية والفلسطينية التي كانت ضد المناورات السياسية لعرفات وبلورتها في جبهة واحدة، ولكن الجبهة الشعبية احترمت دائما العمل السياسي الفلسطيني، والاندماج في منظمة التحرير كان من جهة إيجابيا ومن جهة ثانية أفقد الجبهة المصداقية كخيار ثوري راديكالي والقدرة على الرد على المناورة الدبلوماسية لقيادة منظمة التحرير.

بعد الثمانينيات والتسعينيات تفاقمت هذه الحالة والجبهة الشعبية كانت تعيش تناقضا ما بين الاندماج في منظمة التحرير، ولكن تحت سيطرة أكبر وأقوى لياسر عرفات وبين تهميش في المعارضة بعد أن برزت قوى معارضة أخرى أقوى وأكثر مصداقية.

فمن جهة الجبهة الشعبية واليسار كان داخل منظمة التحرير، ولكن لم يكن له تأثير، ومن جهة ثانية، حماس التي كانت خارج منظمة التحرير اكتسبت مصداقية كمعارضة غير مرتبطة بكل الإشكالات التاريخية العالقة بمنظمة التحرير.

وأنا أقصد بالتاريخي الثمانينيات والتسعينيات، واليوم هناك قوتان رئيسيتان في الحركة الوطنية الفلسطينية، هما فتح وحماس فقد كل منهما هذه المصداقية.

"عرب 48": ولكن بعد أوسلو حماس هي التي طرحت خيارا آخر؟

ليوباردي: نعم هي التي مثلت الخيار الثوري وهذا يعني أن اليسار لم يلعب هو الدور الثوري الذي لعبه تاريخيا، لأنه رغم معارضته لأوسلو كان أقرب إلى السلطة الوطنية وانضم إلى الإطار المؤسساتي والإطار السياسي الذي أسسه اتفاق أوسلو.

"عرب 48": ولكن اليسار والجبهة الشعبية تحديدا لم تنضم للسلطة؟

ليوباردي: رسميا الجبهة الشعبية واليسار باستثناء حزب الشعب كانت ضد السلطة الفلسطينية ولكنه قبل بالنتائج السياسية والمؤسساتية، فمثلا نرى أن المنظمات غير الحكومية فيها تمثيل كبير لليسار الذي بات يرى بهذه المنظمات بديلا للعمل السياسي التقليدي، بالمقابل فإن هذه المنظمات تعمل وفق القواعد الاقتصادية والسياسية التي أسستها اتفاقيات أوسلو والسلطة الوطنية، مثل مصادر التمويل التي جاءت من الغرب وأوروبا وغيرها.

"عرب 48": يبدو أن المشكلة في كون اليسار ظل متمسكا بمنظمة التحرير حتى في وقت تخلت فيه حتى فتح عن المنظمة وهمشتها بعد انتقال مركز العمل السياسي إلى السلطة الفلسطينية؟

ليوباردي: منظمة التحرير الفلسطينية بقيت حالة رمزية ولكن السياسة الفلسطينية أصبحت تدار بواسطة السلطة الوطنية، وما كان بإمكان اليسار الفلسطيني أن يفكر بإطار بديل لأن القادة اليساريين الفلسطينيين كانوا مرتبطين بمؤسسات منظمة التحرير في تمويل الشتات، وبعض المناصب داخل هذه الأطر، في وقت فقدت منظمة التحرير كل معانيها التي تمتعت بها في فترات سابقة.

السياسة الفلسطينية أصبحت تدار من قبل السلطة التي تتمركز في الضفة الغربية وحماس التي تتمركز في قطاع غزة، وبالرغم من أن القوتين فقدتا شرعيتهما وشعبيتهما، لم يخلق بديلا يركز على القضايا الأهم للشعب الفلسطيني، وليس هناك بديلا يطرح صيرورة التحرير على أسس جديدة مثل إنهاء الأبارتهايد في فلسطين.

"عرب 48": من تقصد؟

ليوباردي: أقصد أن اليسار على الرغم من أنه تاريخيا، بمعنى أن أساسه التاريخي والسياسي يمثل هذا الخيار، إلا أن الفصائل التقليدية لليسار ليست قادرة على أن تمثل هذا الخيار، ومشكلة اليسار في أن مؤسسيه كانوا قوميين وهذا يعني بالنسبة لهم أن التحرير معناه تأسيس دولة، ومن الصعب عليهم التفكير بالتحرير عبر أطر بديلة مختلفة، مثل العمل على المستوى الدولي بالارتباط بمفهوم الاستعمار الكولونيالي.

"عرب 48": تقصد أن اليسار بقي محكوما بنشأته؟

ليوباردي: إنهم متمسكون بالفكرة التقليدية المتمثلة بتحرير فلسطين، وهي فكرة قومية، بينما نرى الجيل الجديد يرى قضية التحرير على أساس مختلف مثل إنهاء واقع الأبارتهايد القائم بين البحر والنهر.

وطالما ظل اليسار متمسكا بمنظمة التحرير سيظل متمسكا بحل الدولتين، وهو غير قادر على الخروج عن منظمة التحرير وإطارها الفكري السياسي.

"عرب 48": لكن هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن اليسار ذاهب بهذا الاتجاه، فمنظمة "بي دي اس" والجمعيات الحقوقية والشباب والجمهور الذي يدور في هذا الفلك هو جمهور اليسار؟

ليوباردي: هي تحولات بطيئة وتقتصر على كوادر اليسار وعلى جمهور يساري غير مرتبط بالأطر اليسارية التقليدية.

"عرب 48": لكننا نعلم أن الكوادر الموجودة خارج تنظيمات اليسار أصبحت، كما يقولون، أكثر عددا من الكوادر الموجودة داخلها، وهؤلاء موجودون في مؤسسات مجتمع مدني ومؤسسات حقوقية على غرار المؤسسات الست التي صنفتها إسرائيل بالإرهابية بدعوى تبعيتها للجبهة الشعبية؟

ليوباردي: أنا لا أعتقد أن هذه المنظمات مرتبطة بالجبهة الشعبية، أعتقد أن الكثير من الناشطين متعاطفين أيديولوجيا مع الجبهة الشعبية ولكنهم غير منتمين لها، وأنا لا أعتقد أن الفصائل اليسارية التقليدية قادرة اليوم على أن تجدد نماذج وبرامج سياسية على أساس التوجه الذي تقصده هذه المنظمات وهؤلاء الناشطون.


فرانسيسكو سافيريو ليوباردي هو باحث في جامعة "كافوسكاري" في مدينة البندقية الإيطالية. تتركز أبحاثه على التاريخ المعاصر للعالم العربي والعلاقات الدولية للمنطقة، ويتخصص في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية واليسار الفلسطيني كما أنه مهتم بتاريخ أزمة ديون الثمانينيات وحالة الجزائر بشكل خاص.

التعليقات